الجزء الرابع من البحث في الأستعاذة...

أسئلة الإمام الرازي حول الاستعاذة
وذلك تشحيذا للذهن وإيقاظا للفهم والفكر، فأجبنا عليها زيادة في العلم وحبا في الفهم :
السؤال الأول:
لمَ لم يقل أعوذ بالملائكة، مع أن أي ملك يكفى في دفع الشيطان؟ وما السبب في جعل ذكر الشيطان في مقابلة ذكر الله الرحمن؟.
قلت وجوابه:
أن جميع الملائكة عباد لله مأمورون بالتسبيح والتقديس، ولا يملكون لذواتهم شيئا، بل هم من خشيته مشفقون، وهم المستثنون من الإغواء والوسوسة والإضلال، والاستعاذة والاستجارة عبادة وهي لا تكون إلى لله فكيف تكون لملك أو غيره؟ وقد سبق في علم الله أنه لا يستطيع دفع شر الشيطان الرجيم إلا خالق الثقلين بقدرته وسلطانه القديم عليه، فأمر أن يستعاذ برب الفلق من شر ما خلق، ومن شر الوسواس الخناس، من الجنة والناس، والله أعلم.
السؤال الثاني:
قوله (أعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال والمستقبل كله وهو الكمال، فهل يدل على بقائها في الجنة وأن أهلها يتعوذون؟.
قلت وجوابه: نعم الكمال في الدنيا هو دوام الاستعاذة لتسلط الشيطان الرجيم على أكثر أهلها، فالحاجة ماسة إليها لأن الدنيا دار ابتلاء وتكليف، أما في الآخرة فلا حاجة إلى الاستعاذة لأنها تكليف وهو ساقط عن أهل الجنة فليس فيها تكليف (لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) وفضلا على ذلك فإن إبليس وجنوده أجمعين في النار يحرقون ويعذبون (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) والله أعلم.
السؤال الثالث:
الإله هل هو رحيم كريم؟ فإن كان رحيما كريما فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد؟ وإن لم يكن رحيما كريما فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان؟.
قلت وجوابه: نعم الإله رحيم كريم (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) وخلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد من أجل (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) لحكمته البالغة وقدرته النافذة في خلقه (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) والله أعلم.
السؤال الرابع:
هل الملائكة في السماوات يستعيذون من الشيطان؟ فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من الشيطان؟.
قلت وجوابه: الذي يستعيذ خُلق ورُكِب من عقل وشهوة والملائكة بخلاف ذلك، لأن أصل خلقتهم من نور بخلاف من خلق من ماء مهين ومن تراب وطين، فهو الذي من شر الشيطان ومن شر نفسه يستعيذ، لأنها سفلية أرضية خلافا للملائكة النورانية العلوية السماوية، المخلوقة للتسبيح والتحميد والتعظيم والتقديس والله أعلم.
السؤال الخامس:
لم يتعوذ الأنبياء والصد يقون مع أنه تعالى أخبر أنه لا تعلق له بهم ولا سلطان له عليهم؟.
قلت وجوابه: أن تعلم أن قمم الإنسانية والبشرية في الفضل والكرم والتقوى هم الأنبياء والصديقون، المعنيون بقوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) ويأتي بعدهم في التشريف والتكريم والإضافة إلى حقيقة العبودية والفضل والكرم خواص أتباعهم (إن عبادي) ثم من سار على دربهم ومنوالهم.
واعلم أيضا أن كل من كان من جنس البشر فإن للشيطان فيه مطمع ومدخل، وذلك لأصل الخلقة كما ذكرنا في عدم استعاذة الملائكة بالقول وإنما بحقيقة الفعل، ومراعاة الفرق في أصل الخلقة، ولا يرتقى البشر ولا يتفاضل ولا يكرَّم بعضهم على بعض إلا بالمعرفة والتقوى، فهم يتعوذون لدفع وساوسه بمقتضى الطبيعة البشرية ولتعليم الإنسانية كيف يعبد رب البرية للوصول إلى السعادة الأبدية، فاستعاذة الأنبياء والصديقين بالله تعالى لأنهم أعلم الخلق من البشر بمقامه وجلاله وحق قدره، وليكون ذلك داعية إلى أتباعهم وحافزا وأسوة وقدوة في شدة الاعتصام، وقوة التوكل وصدق اليقين واللجأ.
من فوائد الاستعاذة
1- كونها طاعة لله الواحد القهار، وامتثال لأمر الواحد الديان حيث أمر بها أعظم أنبيائه في أشرف كتبه (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) وقوله تعالى (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون).
2- أنها حصن حصين من الشيطان الرجيم وجنود إبليس أجمعون، وأنها صمام الأمن والأمان في الحياة وجُنة من كل خطر ظاهر أو باطن، ووقاية للإنسان من شرور نفسه وجميع جوارحه.
3- أنها إظهار لحقيقة العبودية من ضعف وذل وانكسار للواحد القهار، وصدق التوكل وحسن الالتجاء.
4- أنها ا تباع لمنهج الأنبياء وإقامة لسنة الحبيب العدنان، وكفى بذلك هداية وتوفيقا وبركة لكل ذي قلب سليم، يرجو الحفظ والرعاية من رب حليم غفور حليم.